من أجل الإلمام بجزء هام من التراث الغنائي والفني والموسيقي بمنطقة سوس
الأمازيغية، وما يميز هذا الموروث من تنوع في ظواهره وتجلياته وتميز وغنى في
مضامينه، وباعتبارها تمثل الشكل العصري البارز من أشكال التراث الأمازيغي إلى جانب
بقية الأشكال الفنية التقليدية المتعارف عليها والتي يوجد كل من فن أحواش وفن
الروايس في طليعتها... اختار الباحث الأمازيغي المغربي أحمد الخنبوبي التوقف من
خلال أول كتاب يصدره بعنوان: "المجموعات الغنائية العصرية السوسية"، عند
التاريخ الخاص بعدد من المجموعات الموسيقية الأمازيغية المشهورة بمنطقة سوس، هذه
الأخيرة شكلت على الدوام، ومنذ الستينيات من القرن الفائت، منطلقا لنشوء عدد من
الفرق الفنية التي اهتمت بالإبداع الموسيقي الأمازيغي وعملت في الآن ذاته على
تطوير وتحسين أدائها كلمة ولحنا وأداء بشكل يرضي الجمهور المتعطش والمحتضن
لإبداعاتها.
وعمل الكاتب على النفاذ إلى عمق المجموعات الغنائية العصرية التي ملأت
الدنيا وشغلت الناس انطلاقا من المرحلتين الزمنيتين السبعينية والثمانينية، متوخيا
بهذا محاولة فهم المجتمع المغربي في هاتين المرحلتين الحساستين والحالكتين في
التاريخ المغربي المعاصر، وهادفا إلى تخليد الروائع الفنية الخالدة لهذه المجموعات
التي تغنى جلها بآلام الناس وآمالهم، مستحضرة لهمومهم وانشغالاتهم. هذا في الوقت
الذي تعمد فيه الإعلام الرسمي والباحثون والنقاد السائرون في نفس دربه على تهميش هذه
المجموعات الأمازيغية وتجاهل إبداعاتها المتميزة، وبالمقابل التركيز فقط على
المجموعات الفنية الأخرى غير الأمازيغية.
وأحاط المؤلف بالسياق التاريخي الدال الذي نشأت فيه وتطورت المجموعات
الفنية التي سلط عليها مجهره البحثي متناولا للأنماط الموسيقية التقليدية التي
سادت بالمنطقة المعنية، وبالأساس فن أحواش الذائع الصيت بشتى تلاوينه التي تختلف
حسب المناطق والجهات، وكذلك فن تيرويسا بكل عمالقته من المبدعين الكبار المعروفين
باسم الروايس مثل: الرايس بلعيد، الرايس عمر واهروش، الرايس جانتي، الرايس محمد
الدمسيري وغيرهم من جهابذة فن أمارك. فبالرغم من الطابع والصفة التقليديين لهذا
النمط الغنائي، فإنه قد شكل باستمرار معينا لا ينضب بالنسبة لهذه المجموعات التي
ما فتئت تمتح منه على المستوى الفني باعتباره تراثا ثريا.
ومن خلال المسح التأريخي الذي قام به الكاتب رصدا منه للبدايات الأولى
لنشوء وتطور هذه الظاهرة الفنية، استخلص أن أولى المجموعات الفنية التي برزت إلى
الوجود هي مجموعة تبغينوزت / العنكبوت ثم مجموعة لاقدام، كان ذلك في فترة
الستينيات بمدينة إنزكان الجنوبية غير بعيد كثيرا عن أكادير. ليتناول بعد ذلك
خصوصيات كوكتيل متنوع من المجموعات الفنية الغنائية التي كانت سباقة في ولوجها
للمجال الفني الأمازيغي. فإذا كانت مجموعة أوسمان بقيادة الفنان مبارك عموري
والفنان بلعيد العكاف قد أثارت انتباه الجمهور ولفتت أنظار وسائل الإعلام فور
ظهورها بحكم عملها العصري المتطور وتوظيفها لآلات جد متطورة في تلك المدة ولم يعرف
لها الفن الأمازيغي سبقا من قبيل الأكورديون والكمان والقيثارة، فإن مجموعة
إزنزارن بقيادة الفنان النادر عبد الهادي إيكوت مثلت عهدا جديدا من الموسيقى
الأمازيغية بحكم ألحانها وكلماتها التي احتضنتها مختلف طبقات المجتمع بتلقائية
وعفوية كبيرتين، وظلت الجماهير تصدح بها لمدد طويلة منذ العام 1974 إلى غاية
اليوم. في حين جاءت مجموعة أرشاش في نهاية السبعينيات بقيادة الفنان الكبير مولاي
علي شوهاد لتكون بمثابة الذاكرة التراثية للمجموعات الأمازيغية وكذلك لتجدد في
الموروث الفني للأمازيغ، وبالمقابل فقد عكست المجموعات الفنية الأخرى مثل أودادن،
ئيكيدار، تودرت، تيتار أنماطا مختلفة ومتنوعة من اللحن والكلمة والأداء.
إن كتاب الأستاذ أحمد الخنبوبي هذا، والذي يقع في حوالي 100 صفحة من الحجم
المتوسط، تمكن فيه من الإلمام بجانب هام من تاريخ فننا الأمازيغي الذي ما أحوجنا
اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تدوينه والإطلاع عليه، يشكل أولى المساهمات الجادة –
طبعا إلى جانب إسهامات باحثين آخرين- لدراسة تاريخ هذا الفن. وأعتقد جازما أن
المؤلف توفق في ذلك باعتباره تناول التاريخ الخاص لكل مجموعة على حدة كما أنه أرفق
كتابه بسلسة من الصور النادرة لكل المجموعات الفنية التي قام بمقاربتها، إضافة إلى
إغناء كتابه بما يمكن أن نطلق عليه "أطلس المجموعات الغنائية
الأمازيغية" في شكل جدول تحليلي وإحصائي لكل المجموعات الموسيقية الأمازيغية
التي عرفتها منطقة سوس.
أخيرا، وفي لقاء مع المؤلف الأستاذ أحمد الخنبوبي في إحدى المناسبات
الثقافية التي جمعتني وإياه، وكانت مناسبة للدردشة معه بصدد كتابه وظروف وصعوبات
النشر والتوزيع، أخبرني أن الكتاب تلقفه القراء ونفذ في ظرف قياسي جدا، وأنه بصدد
الإعداد لطبعة ثانية مزيدة ومنقحة. وهذا في حد ذاته مؤشر مشجع وإيجابي جدا يدل على
رغبة القراء في الاطلاع على كل جديد يخص المجموعات الفنية الأمازيغية بشكل خاص
والتراث الفني الأمازيغي بشكل عام.