آلة التضرع لإله الغيث
بحث في الثقافة الأمازيغية
يتوخى البحث في الثقافة الأمازيغية نتائج علمية مهمة، وذلك بنقل الحياة من شكلها الممَارَس العفوي إلى الشكل الأدبي، من خلال مقاربات نقدية تهدف إلى الاشتغال على الأشكال المكونة لنص محتمل، بناء على القراءة اللغوية والتحليل البنيوي والمقاربة المتعددة الأوجه، والمقارنة بالنصوص المنصوصة، والمساءلة المنهجية الهادفة إلى البناء، وإن ظهرت وسائل الهدم والنقض في بعض السياقات.
من هذه الزاوية نظرنا إلى " تلاغنجا"، وكان لنا أمل كبير أن نفيد القارئ، لكونه سينفتح على ثقافة غريبة عنه أو عن ثقافة يمارسها دون وعي بمكنونها، فيكون لنا في ذلك حظ من الاجتهاد لتوفير مصدر من مصادر التوليف المعرفي، ويكون للقارئ حظ من تلقيه، وهي كلها غايات نبيلة، تدل على رمزية الحياة كما يصورها حفل "تلاغنجا".
تلاغنجا محاولة لفهم لغوي :
تعود تلاغنجا إلى "أغنجا" و "تاغنجات"، وهي المغرفة باللغة العربية، وما يمكن أن نقابله في اللغة الفرنسية بالكلمة la louche، وهي من المصنوعات الأمازيغية القديمة التي لازمت الإنسان في حياته ، تصنع من الخشب فأصبحت تصنع من الألومنيوم وغيرها. ما بهمنا من هذه الآلة أنها حملت دلالة ورمزية في الثقافة المغربية. سبب في هذه الدلالة تدحرج الكلمة في أوساط مختلفة، فسميت تاغنجا عند البعض، وتلغنجا عند البعض، وتلاغنجا عند البعض الآخر، في حفل استسقائي واحد مختلف المظاهر. فلماذا تاغنجا أو تلغنجا أو تلاغنجا؟
تلا غنجا والتداول في الأوساط الناطقة بالعربية
تاغنجا في هذا التداول نطق عربي (تعريب) لكلمة تاغنجات بحذف نصف تأنيثها، فبقيت مخنثة، تحمل صفات الذكورة -أو التذكير- في آخرها، والأنوثة - أو التأنيث- في أولها. لأن التأنيث في الأمازيغية يكون بإضافة التاء في أول الكلمة وفي آخرها، وهذا يسري على كثير من الكلمات مثلا:
تاهلا بدلا من تاهلات وهي تالات أي العين
§ تادلا بدلا من تادالت وهي العنقود.
تلاغنجا بين عملية التزيين والاقتران
إذا كانت كلمة غنجا في أصلها تعني أغنجا أو تاغنجات فإن كلمة "تــل" تفيدا معنى إضافيا يتفاعل مع معنى أغنجا لإنتاج معنى مركبا أو معان مركبة كالتالي:
§ تّــل: تعني في الأمازيغية تسلق أو غط ، والمعنى المستفاد من تلــغنجا هو غط المغرفة، "couvrir la louche" وهي الدلالة المعروفة " تاغنجات" ذات الوظيفة المطبخية إلى الوظيفة الإيحائية المحققة من خلال المظهر الموحي بالدمية، والدال على العروسة : تيسليت نونزار. قبل الدلالة على العمق الأسطوري الاستسقائي.
§ تلا غنجا: لها دلالات كثيرة في الامازيغية ، منها تّل أغنجا ، وتفيد غط المغرفة الذّكر، وتلا أغنجا بحيث تدغم في كلمة واحدة، وتعني تزوجت المغرفة الذكر واقترنت به. أما اللفظ "تـــلا" لوحده، فيعني اسما أمازيغيا من أسماء الأمازيغيات ومازال متداولا. يأتي هذا الاسم منفردا أو مستقلا ليدل على ملكية مقدرة، فنقول: إن " تلا" تعني مالكة لشيء ما مقدر، كأن نقول " ذات السعد" أو ذات الخير أو ذات الأبناء وغيرها من المقدرات، وقد يصرح بمضافها المقدر فيصبح صريحا كقولنا " تلا أيتماس" أي : ذات الإخوة الذكور" وتسمى به الفتات البكر أملا في إنجاب أطفال ذكور في السنوات المقبلة، كما يمكن أن تسمى به الفتاة الصغرى افتخارا بكونها بنتا منتظرة بعد عدد من الذكور، وقد تسمى به إحدى الفتيات بعد تكاثرهن أملا في وضع حمل ذكر فيما سيأتي، والحديث عن تلاغنجا، في هذا السياق يحمل دلالات مركبة مما يلي:
¨ تل أغنجا وتعني: غط المغرفة/ الذكر.
¨ تلا غنجا وتعني زوجة المغرفة/ الذكر.
¨ تلا غنجا وتعني مالكة المغرفة الذكر دائما.
لا يمكن فهم المراد من هذا التركيب إلا بفتح آفاق تأويلية ترتبط بالثقافة في بعدها الأكثر عراقة، ونعني يذلك المحاولة التي تمكن من استجلاء المكنون من هذا المركب.
تلاغنجا محاولة للتأويل في سياق الثقافة الأمازيغية
يرتبط اللفظ "أغنجا" في الثقافة الأمازيغية بالبوار، لأنه الاسم المستعار الذي يطلق على الفتاة البائرة.التي لم تتزوج في وقتها أو لم تتزوج قط ، ومازال هذا اللفظ متداولا في كثير من الأوساط بهذا المعنى ، لكن تعقب هذه الدلالة سنجدها أكثر انتشارا في المغرب بإيحائية أخرى ، إنها ذلك الوحي الوظيفي الذي يجعل من المغرفة والأدوات المطبخية ، بعدها ، وسيلة تسلط البوار على الفتاة إذا ما ضربت بها . فيتقى ضرب الفتيات بهذه الأدوات ، لئلا تسلط عليهن "لعنة البوار" ، هذا البعد السحري الذي تحمله "تاغنجات" (المغرفة) ويمكن أن تحمله الأدوات التي تعيش معها في المطبخ كذلك ، تنقلها من وظيفة آلية إلى وظيفة تأثيرية ، مما يكسبها قيمة إضافية ، يمكن أن نطلق عليها بعدا تأليهيا . فتتأسس الماهية المركبة من الاستغلال والتأثير ، في هذا الشيء الذي تسري روح خفية فيه لترقى به ، من عبودية المطبخ إلى ألوهية تتحكم في مصائر الزواج ، ونلاحظ مرة أخرى نوعا من التفاعل بين البوار والقداسة في الثقافة الأمازيغية ، لأن "الفتاة البائرة ، أو المرأة البكر" التي لم تتزوج في حياتها ، تجمع بين الوضاعة الاجتماعية والقداسة الإلهية ، وغالبا ما تربط الأماريغ الاستشفاء من مجموعة من الأمراض "بسحرية" لا توجد إلا عند هذه العذراء ، نسجل هنا التفاعل المتبادل بين المغرفة (تاغنجات) وهذه العذراء فتقدس هذه الآلة كما تقدس هذه العذراء ، وتقدس العذراء كما تقدس الآلة ، ولسنا في حاجة لتقديم إجابة عن السبق بالقصة المعروفة بين الدجاجة والبيضة .
تلاغنجا والعذراء ملامح التواشج
إذا احتكمنا إلى الثقافة الأمازيغية ، سنجد حفلا طقسيا يقام للاستسقاء ، وهو حفل نسوي بامتياز تقوم به النساء والفتيات العذارى على حد سؤاء أيام الجفاف طلبا للغيث ، وتختلف تمظهرات هذا الحفل من منطقة لأخرى ، لكننا نرى الحفل في الجنوب الشرقي اقرب إلى هذا البعد الطقسي الأقدم والصرف ، من الأشكال الأخرى ، وهذا لا يعني انتفاء سمات الأصالة في الأشكال الأخرى كما في الريف مثلا ، فيما كان يسمى "تيسليت ن أنزار" أو" تيسريت نون زار " بالنطق الريفي أي عروس الغيث أو المطر . كما لا يعني انتصارا لذاكرتي الطفولية، أو الانتماء الجغرافي ، كان حكمنا على "تلاغنجا" في الجنوب الشرقي أنها الأقرب إلى الأصل لظروف كثيرة ترتبط ببنية الحفل الطقسي من جهة مقارنة مع الأشكال الأخرى ، ولظروف انغلاق جغرافي ولغوي وثقافي من جهة ثانية وظروف سنكشف عنها فيما بعد.
عودة إلى" تلاغنجا" والعذراء فصفات الأنوثة قاسم مشترك قطعي بينهما ، وارتباط الاسم "تلا"بالإنجاب والخصب من جهة ثانية ، يتجلى مرة أخرى في عملية الاستسقاء بالإضافة إلى الرمزية التي تظهر من خلال تحقيق العذراء للوساطة بين المريض والهة أو إله يوفر الشفاء (الاستشفاء) ووساطة المغرفة (تاغنجات) لتوفير الغيث من اله الماء أو الغيث في العادات الوثنية ، ومن الله بلغة التوحيد ، حيث العذارى يرددن "أتلا غنجا أسي أوراون سيكنا غر أي ربي أديك أنزار سكيكان"، (الكاف الأولى تميل إلى الشين والثانية جيم مصرية)، ما معناه:" يا أيتها المغرفة ، ارفعي يديك إلى السماء، واطلبي الله أن يغيثنا بالدلاء" ، وتفيد في الفرنسية هذا المعنى la louche (belle ) , tes mains au ciel , demandant au Dieu qu’il nous sauve , la pluie aux sceaux .)
تلا غنجا والعروسة والزواج المقدس وبداية الخلق
تسمى تلاغنجا في شمال المغرب تسليت ن أنزار، وهي شكل طقوسي منقرض في الشمال رغم تعاقب سنوات الجفاف ، وهذه العروسة التي يستسقى بها ليست مجرد دمية يلعب بها فترمى لينتهي تاريخها ، إنها في الثقافة الأمازيغية رمز وعمق دلالي خصب لان العروسة ذاتها يستجاب لها ، كما هو شائع في هذه الثقافة ، وهي معادل لعروسة أسطورية قدمت قربانا للماء في قصص متداولة بروايات مختلفة ، فيما يسمى علاقة " تسليت و ايسلي " بالتضحية من أجل الحب في كثير من الأماكن ، الأكثر من ذلك أن معالم جغرافية مازالت تشهد لنا بآثار تاريخية لهذه الأسطورة ، لان كثيرا من الأنهار تدعى بذلك ، وكثير من الأماكن المهمة كـــ"تيزي اوسلي " تيسليت "ايسلي" م ّ ايسلان" وغيرها ، ومنها قوس قزح المسمى "تيسليت نيكنا " أي عروس السماء " هكذا فسر الإنسان الطبيعة من حوله عندما صعب عليه فهم ذلك، وانطلق من ذاته لمحاولة فهم الطبيعة. ويمكن أن نلتمس أوجه "التعريس " في تزيين تاغنجات حتى تصبح شبيهة بالعروسة ، فتحمل على الأكتاف في موكب نسوي لأداء الطقس المرتبط بالجفاف خصوصا .ونرى أن هذا الطقس يتمظهر في صور أخرى أكثر اتساعا في الزمان والمكان ، وفي أشكال أخرى كــ "لالة بويا" المعروفة في الشمال (الريف) بـ"رارا بويا" ، وتسليت في الجنوب الشرقي التي سميت في طفولتنا (الثمانينات والتسعينات وربما قبلهما)، "تسليت ن أيت عدّو"، وهي عروسة تقدمها أسرة من أسر" أيت عدو" ممثلة في إحدى طفلاتهم للإحتفال، لكن الاشتراك لا يكون لأيت عدو وحدهم، بل يتعداهم إلى القبيلة كاملة( إيملوان)، ثم إلى سائر سكان المنطقة أو إلى الأمازيغ جميعا، في التاريخ الغابر.
ولما كان المبتغى من الزواج هو الإنجاب والخصوبة فان الخلق من خلال طلب الغيث، وهو تلك النطفة التي تعيد تلقيح الأرض لخلق الحياة وتحقيق البعث في الموتى من جديد.
تلاغنجا: قراءة في ضوء الميثولوجيا الإغريقية
تنحو هذه الدراسة نحو مقاربة مقارنة، بين حفل طقوسي حي، وحاضر الآن هنا، وبين نص مسرحي مقروء وحاضر في المتخيل من خلال تمثله ألان هنا، والغرض من هذه المقارنة " أدْرَمَة"، ( من الدراما)، الشكل الطقسي الحاضر في صورة تلاغنجا، من جهة والبحث في التقاطعات الحضارية بين حضارة إغريقية عالمة وأخرى أمازيغية "متناثرة" وفي حاجة لعقل جامع لقراءة التراث في ضوء الحاضر، وليس لتأويل الحاضر في ضوء التراث. ومن هذا الباب نطرح مجموعة من الإشكالات في الشكل الآتي:
كيف يتم الإعداد لحفل تلاغنجا؟ ما ظروفه؟ وكيف يشتغل؟ ما علاقته بالأسطورة وبالتاريخ؟ وما الفائدة المعرفية من العودة إليه، في عصر الطقوس الافتراضية؟
تلاغنجا: الوصف والتحليل
تلاغنجا كما أشرنا سابقا، ترتبط بطقس الجفاف بعينه، وبجنس النساء، وبالمغرفة الخشبية، أما ارتباطها بالجفاف فلأنها لم تكن حفلا سنويا أو شهريا، أو أسبوعيا، أو فصليا، إنها منقطعة في الزمان العارض، وهو زمن الجفاف، فالجفاف حالة لا فصل، لئلا يفهم من القول :تخصيص الحفل بفصل الصيف، لأن الأمر ليس كذلك. وأما ارتباطها بالجنس (النساء)، فلأنهن المستجيبات بالتنسيق فيما بينهن، لتنظيم هذا "الحفل" الطقسي، وهن المعنيات به، فالرجال لا يبادرون ولا يقاطعون، وحتى إذا بادر أحدهم، فإنه يقترح ذلك على زوجته، وتبقى المبادرة الفعلية متعلقة بالمرأة. فتتشاور مع باقي النساء، وينسقن فيما بينهن لتحقيق الطقس، وأما ارتباطها بالمغرفة، فلأن الآلة (الأداة) التي يستسقى بها، في هذا الطقس، هي هذا الشكل الخشبي الذي يتصرف في شكله، بحيث ينتصب في شكل فزاعة، على هيئة بشرية، توثق قطعة خشبية (عصا صغيرة أومغرفتين صغيرتين)، فتأخذ شكل صليب ، بحيث تتحدد يدا تلاغنجا،كما يمكن أن تستعمل مغرفتين صغيرتين، تتخذان شكل الكفين، مرفوعتين صوب السماء، كمن يتضرع، ثم يعطى لها شكل العروسة بإلباسها زيا مزينا بتفاصيل العروسة الأمازيغية. ترفع بعد ذلك في السماء، ويسير الجميع في مسيرة مرددين:” آ تلغنجا آسي ءوراون كّيكنا، غر ءي ربي آديك أنزار س كيكان:"Atlghonja assy ourawn sigu’nna gher irbbi addig anzar skigan ". أي:" يا أيتها المغرفة ارفعي يديك إلى السماء واطلبي الله أن يرزقنا بالدلاء"، فتطوف النساء بها ، في البلد لجمع البركات والهدايا، وقد يصاحبن أطفالهن الذكور والإناث، كما يمكن للرجال أن شاركوهن في حفلهن غير مرددين، وغير مختلطين بهن ( المشاركة عن بعد). عندما ينتهين من الطواف، يؤمّنَّ إحداهن ما جمعن، فيحَضّرنَ حفلا كسكسيا، بعد ذلك يطعمن منه المارة والصبية وطلبة العلم، واليتامى، وأهل البلد أجمعهم، معتبرات بالبركة لا بالكمية ( الباروك)، لتعم المنفعة على الجميع لأن تلاغنجا حفل الجميع، من غير تمييز. يقام بعد ذلك حفل استسقائي مصغر، إذا لم يدرك الغيث النساء، وهن مازلن في إعداد كسكسهن. ونرى أن هذا الطقس قد احتفظ ببعده، لأنه لم يختلط بالمبارزة بالقول، أو اللعب بالجسد كما في كثير من الطقوس الأخرى. ويمكن أن نستنتج مجموعة من الاستنتاجات العامة وهي:
· دور المرأة، في الثقافة الأمازيغية دور لا يؤمن بمركزية القرار بيد الرجل أو بيد المرأة.( لكل منهما شؤون تعنيه).
· لا يمكن تصور تنسيق بين النساء ، وتأمين إحداهن من غير تصور تنظيم ما تتوحد فيه هذه النساء.(مجالس النساء مثلا)
· لا يمكن تصور شكلين من الاحتفال من غير إمكان وجود حفل يوحدهما في الأصل .(الحفل الخالص)
· جمع القربات من المنازل، يوحي بوجود كتلة سكانية مجتمعة بالجوار القريب (المحاذاة)، مما يوحي بكون الناس هم الذين يأتون بقرابينهم للحفل في مكان ما (أنرار/ البيدر) غالبا، في اطار الحفل الخالص، تقربا من إله الغيث.
تلاغنجا ولماذا الأسطورة؟
يحملنا هذا السؤال للنبش في أصول الأسطورة، قبل البحث في أصول الطقس، ذلك أن انتساب" تلاغنجا" إلى الأسطورة سيكون ضربا من الافتراء ما لم تعرف أصول الأسطورة نفسها، ونني بهذه الأصول القوة الدافعة إلى الأسطورة وليس الأصل اللغوي في مختلف المعاجم، كما لا نعني الأفهام الحديثة لمدلولها .
كانت حاجة الإنسان منذ القدم إلى الأسطورة، حاجة إلى الفهم، فهم الطبيعة من حوله وفهم ضعفه من جهة ثانية، بالإضافة إلى حاجته إلى القوة التي يستمدها من القوى الغيبية لتجاوز ضعفه، ومحاولة السيطرة على العالم بعد التمكن من تفسير ظواهره من جهة ثالثة.
ابتكر الإنسان وسائل جديدة لإعادة خلق الطيعة وتحقيق الخلود، ومن هنا جاءت الأسطورة مزامنة لمحاولة الإنسان استغلال الطبيعة بالصيد في العصر البالياليثي، وبالزراعة في العصر النيوليثي ، محيطين واقعهم بمجموعة من التفسيرات وأشكال الخلق فـ " قبل عشرة ألاف سنة تقريبا اخترع البشر الزراعة ، ولم يعد الصيد مصدر طعامهم الرئيسي ، لاكتشافهم الواضح أن الأرض مصدر إنماء لا ينفذ للطعام ، لم يكن هنالك تطورات تذكر للجنس البشري عدا الثورة الزراعية ، ويمكن تلمس خشية وسرور ورعب المزارعين الرواد في الميثولوجيا التي ابتكروها للتكيف مع ظروف حياتهم الجديدة، والتي حفظت أجزاء منها في ميثولوجيا الثقافات اللاحقة كانت الزراعة نتاجا للوغوس إلا أنها وعلى خلاف الثورة التقنية في أيامنا الحالية ، لم تكن بنظر الأوائل مشروعا دنيويا صافيا بل كانت بمثابة صحوة روحية عظيمة ، وهبت الناس فهما جديدا بالكامل عن أنفسهم وعالمهم[1] " هكذا نرى دور الحياة في إنتاج الأساطير ودور الأساطير في فهم الحياة حتى تنتفي البداية الأولى للأسطورة وكأنها ولدت مع الإنسان الأول لتساعده على فهم الحياة من حوله، ونسجل من خلال القول السابق أن الأسطورة مجال لتزاوج الدنيوي بالديني من جهة ومجال لفهم الذات والطبيعة من جهة ثانية ، وكذلك كان الإنسان الأمازيغي الذي أنتج "تلاغنجا" للاستسقاء ، ونرى أن هذا الطقس يمكن أن يعود إلى المرحلة " النيوليثية " لأن المخلفات التي تعود لفترة النيولتيك، متوفرة بكثرة في شمال إفريقيا، فمغارة الدببة في قسطنطينة، ومغارة التركولوديت ( أو سكان الكهوف) في وهران تعتبر من أهم المواقع، أما في المغرب فقد اكتشفت قرية ما قبل تاريخية تقع فوق منحدر صخري وتشرف على وادي بهت "[2] ، كما أن ارتباط هذا الطقس بالإستسقاء ، يدل على المرحلة الانتقالية التي انتقل فيها الإنسان من حالة الصيد المطلق إلى الزراعة واكتشاف العطايا التي تعطيها الأرض بغير انقطاع، وذلك ما يسمى بالانتقال من " الباليالتيك" إلى " النيوليتيك " هكذا يمكن أن تتغذى الأسطورة من الحياة اليومية بشكل رمزي لفهم تلك الحياة في عمقها، وفهم النظام المسير لهذه الحياة بما فيها من الطبيعة والإنسان معا" فالأسطورة لا تقدم معلومات بعنوان أنها حقائق، بل تقدمها، بشكل رئيسي، دليلا للسلوك، ولا تتجلى معانيها إلا حين نمارسها شعائريا أو أخلاقيا وإذا قدمنا الأسطورة على أنها نظرية فكرية خالصة نكون قد حولناها إلى شيء غريب ولا يصدق[3] ومنه فإن " تلاغنجا" في شكلها الطقسي يمكن أن تكون أسطورة يصعب اختزالها في قواعد علمية دقيقة لإنزال الغيث من السماء، كما أنها لا تعني الخرافة بحكم ارتباطها بالممارسة الفعلية لمجتمع بقيادة المرأة هذه القيادة التي تحيل إلى العصر " الباليالتيكي " الذي قدم فيه الرجل قربانا للآلهة، ويمتهن الصيد والمغامرة لجلب القوت لشعبه وذلك ما " يعتقد المتخصصون أن أساطير الصعود الأولى تعود إلى الفترة الباليدليثية أو لها علاقة بجماعة الشامان shaman المتدينين الرئيسيين في مجتمعات الصيد [ ...] كان الشروع في رحلة الصيد ، بالنسبة إلى رجل الشامان رحلة روحية وكان يعتقد أن لديه القدرة على ترك جسده والسفر بروحه إلى العالم السماوي وعندما يذهب في غيبوبة روحية ، فإنه يطير في الهواء ويجتمع بالآلهة لأجل شعبه " [4]
لا نقصد بهذا أن تلاغنجا تعود إلى العصر الباليالتيكلي، لأننا نعتقد أنها عائدة إلى عصر النيولويثي – كما أشرنا سابقا – لأنها مرتبطة بالزراعة، لكنها لم تستغن عن رواسب ثقافة عصر سابق، وهو عصر الصيد، وما يدل على ذلك في طقس " تلاغنجا" هو فعل التضرع إلى السماء طلبا من رمز الاحتفال " المغرفة " أن ترفع " يديها إلى السماء وتطلب الله أن ينزل الغيث بالدلاء" وهذا ما سنفصل فيه لاحقا.
إن من أهم المظاهر التي تحتاج إلى الدراسة من زوايا مختلفة لإغناء الدراسة الثقافية المتناولة لطقس في حجم " تلاغنجا "، الألبسة التي يزين بها رمز الاحتفال " المغرفة "، وملحقات هذا الزي من حلي وألوان وأصباغ ، خاصة أن الاحتفال يختزل عرسا أمازيغيا، فلماذا العرس ؟ وما دلالة التعريس " في الثقافة الأمازيغية وفي الأسطورة ؟
تحيط بالأعراس الأمازيغية مجموعة من الإحتفالات والطقوس، نذكر منها "أحيدوس" وحفل العرس ذاته، " فعلى سبيل المثال كانت أفراح العرس (تامغرا) بالريف تبدأ مباشرة بعد انتهاء الموسم الزراعي في فصل الصيف، وتدوم إلى غاية الفصل القادم الذي تبدأ فيه أشغال الحرث والزرع"[5] ربما كانت هذه الأعراس قد ارتبطت بفصل الخريف للحاجة إلى المنتوج المقبل على استهلاكه في الأعراس من جهة، ولكون الإنسان المزارع قد تفرغ لشؤونه الخاصة في المنطقة أجمعها، مما سهل الانخراط الجماعي في العرس بخلاف الأيام والفصول الأخرى التي تضّيق على المزارعين زمن انشغالهم بذواتهم، لأن المحاصيل تحتاج إلى الري والعناية والحرص التام لإعطاء منتوج أجمل وأوفر خاصة أن " العرس الواحد يستغرق أسبوعين كاملين من المباهج والمسرات ( وقد تمتد لشهر كامل في بعض الأحيان أو عند بعض القبائل ( تتوزع بين بيت العريس وبيت العروس وبيوت أهليهما وساحات القبيلة التي ينتمي إليها العروسين، ويشارك فيها كل ساكنة القبيلة من نساء ورجال وعجزة وأطفال، وأهل وأصدقاء وغرباء ويحضرها من شاء من القبائل المجاورة "[6] لكن الذي يجذبنا هنا هو اختلاف الزمن الذي تقام فيه الأعراس الأمازيغية عما كان في المجتمعات "النوليثية" قديما ذلك أنها تنزع نحو الممارسة الجنسية بين الذكور والإناث بعد الزراعة مباشرة وليس بعد الحصاد فقد " اعتبرت الجنسانية البشرية، مثلا إلهية، تماما مثل القوة الإلهية التي تثمر الأرض كان ينظر إلى المحصول ، في الميثولوجيا النيوليثية، على أنه ثمرة زواج مقدس، فالتربة هي الأنثى والبذور هي السائل المنوي الإلهي، والمطر هو جماع السماء والأرض لذلك كان أمرا اعتياديا لدى الرجال والنساء أن يمارسوا الجنس معا بطريقة طقوسية عندما يزروعون محاصيلهم إذ من شأن فعل الجماع هذا ، الذي هو فعل مقدس أن ينشط طاقات التربة الخلاقة [7]
يختزل هذا القول الاختلاف الزمني بين العرس الأمازيغي واللقاء الجنسي في المجتمعات الزراعية، بين موسم الحصاد وموسم إقاء البذور بالتوالي، وهو اختلاف يحتاج إلى توضيح .
تلاغنجا / من البوار إلى الإخصاب
ترتبط تلاغنجا بالأسطورة من خلال جوانب عدة في الثقافة الأمازيغية وقد فصل في ذلك كتاب "محمد أوسوس" بعنوان دراسات في الفكر الميثي الأمازيغي" ونتفق مع ما جاء في هذا الكتاب مع وجود بعض الإضافات التي يمكن أن نضيفها لهذا الحقل المعرفي، من خلال مقارنة تلاغنجا مع نصوص ايسخيلوس المسرحية خاصة المتضرعات.
لقد سبقت الإشارة إلى الدور الذي أسند للمغرفة : " تلاغنجا " في الثقافة الأمازيغية، بكونها معادلا لكل إنسان سيء الحظ، لذلك توصف المرأة البائرة بالمغرفة وهناك أمثال كثيرة تبخس من قيمة هذه الوسيلة " المغرفة"، كما في قول الأمازيغ :" أياغنجا نْ تركين '' Ayag^onja n’tirguin'' بما معناه : " يا محمل الجمر " للإشارة بنعت مشين وبدلالة مقذعة على إنسان كما في قولهم : إيبدا أو غنجا ك أو حرير " Ibdda ough^nja g^ohorir " أي وقفت المغرفة في الحساء " وذلك للاستغراب والاستخفاف من الكذاب مثلا، وكأن المستحيل تحقق وهناك أمثلة أخرى منها " ماكّ يسودان كـ لقش أياغنجا؟ " بمعنى من يقدرك أيتها المغرفة بين الأواني ؟
وهو سؤال لا يراد منه الجواب، لأنه يفيد نفي الفائدة والجمال عن هذه المغرفة ، مقارنة بباقي الأواني لكن كيف يطلب الماء بكونه الحاجة للحياة والاستمرار، من الله بكونه المقدس، باستعمال المغرفة والتسول بها إلى الله ( إله الغيث ) ؟
هذا التناقض الذي نكشف عنه بعقل اليوم هو روح " الميث (الأسطورة) التي قبعت في عمق الفهم البشري القديم عموما للطبيعة، والتأثير الأمازيغي في القوى المتحكمة في المطر من جهة ثانية، لذلك ارتبطت مجموعة من الطقوس بالاستسقاء طلبا للغيث حينا أو طلبا لإيقاف المطر حينا آخر حسب الحاجة والضرورة، فأمكن الحديث عن " وجّا " وتامغرا ن ووشن " "tamghra n ouchen" و"تسليت ديسلي" : وغيرها بحثا في هذا العمق الدلالي المؤسس للأسطورة الأمازيغية المجسدة في أشكال كثيرة من بينها "تلاغنجا".
تلاغنجا ومعادلاتها في الثقافة الأمازيغية
نستهل القول هنا بحكم انطباعي لمؤلف كتاب " موت العقل الأمازيغي " عبد الحميد العوني في قوله:" لم يصل الأمازيغ إلى تأليه الرجل ولا المرأة للصراع الداهم بينهما – حول الأرض ولم يطلبوا الخلود ، لأن الحرب عرف الأعراف ولعدم استقرار الملكية لم يستقر قانون "[8] ونحن نتأمل هذا القول نستحضر أسطورة " تسليت وإيسلي " التي طرزت جغرافيا بلاد " تامّزغا" من جبالها ووديانها وأحواضها المائية ، فارتبط الماء بالمرأة في تفاصيل الحياة وفي طقوس التفاعل مع الطبيعة بظواهرها، فبالعروسة يتم الاستسقاء ، كانت العروسة حقيقية كما في بعض أيام العرس المسماة : أسّْ ن تكوري " A’ss ntgwori "، أي يوم "القربان" إذ تعطي العروسة وقرينها شيئا لعين أو ساقية أو بئر، أو ما شابه ذلك وهذه العطايا تكون لوزا أو تمرا أو شيئا آخر، مما يؤكد على هذا الارتباط الوثيق بين " العرس " والماء وهو ما يؤكده لفظ تسليت نونزار tislit nourar أي عروس الغيث، وهي قوس قزح. ولعل تقديم تلاغنجا (تعريسها) لتنتقل من حالة البوار إلى حالة الزواج بإله المطر ( الغيث ) من أهم البنى الدلالية المؤلهة لهذه "العروسة " المقدمة بكرا طلبا للغيث، وما هذا الطقس إلا شكل من أشكال التأليه للمرأة خاصة عندما نفترض أن العروس قد تكون عروسة حقيقية في الأصل كما تشهد مجموعة من الأشكال لحفل الاستسقاء في بلاد " تامازغا" هذا ما يؤكده قول محمد أوسوس :" إن زواج إيسلي ( العريس ) وتيسليت ( العروس ) تتخذ لدى الأمازيع بعدا كونيا يناظر زواج السماء بالأرض وزواج أنزار بتسليت أونزار وهو اقتران تكاملي يتم تمثيله على المستوى الرمزي أيضا بزوجasakkwm- tafrdut ( ( المدق palon – الجرن mortier ([9]
نستشف هنا معادلا جديدا وهو " الجرن ( تافردوت ) وأهميتها في الارتباط بإله الغيث، فإذا كانت المغرفة رمز الطلب ( طلب الغيث ( فإن الجرن رمز القناعة " ف " النساء في قبيلة زمّور إذا رغبن في انحباس المطر حين تهدد غزارته المحصول ، فإنهن يعمدن إلى ملء جرن ( تافردوت) بالماء ، وتغطيه بلويحة planchette ومواراته في التراب بعمق ضحل جدا، ثم يمررن طبقة خفيفة من الأرض فوقها ، ويضرمن النار عليها" [10]
إنها ( تافردوت ) الوسيلة التي يطلب بها انقطاع المطر عندما يتجاوز حد المنفعة والرحمة ، بحيث ترى النساء يرددن : أداغ إيسيكّ ربي كر إيكوسيفن " sdagh issikk r’bbi gu’er Igoussifen " بمعنى اللهم ألطف بنا بين الأنواء. هذه الأدوات التي اكتسبت معانيها من الحياة، وهذه المرأة التي امتلأت بهذه المعاني، لم يكن لها أن تكون كذلك لولا لحمة من العلاقات الهادفة لفهم الحياة من خلال إعطائها معنى وكذلك كانت " الأسطورة هي التي تعطي للحياة معنى وشكلا"[11] ولعل ارتباط هذا الطقس بالمرأة، لأن النساء هن المنظمات والمشاركات والفاعلات في طريقة الاحتفال، من الفكرة حتى التنفيذ والنهاية ، يزكي قدرات المرأة في المجتمع الأمازيغي، وليس بنيها وبين الرجل أي صراع كما أدعى القول الذي جاء به عبد الحميد العوني " والمهم هو الشعائر وليس الأفراد الفاعلين وهو ما يشعر الأفراد أنهم غارقون في العالم المقدس، الذي هو أساس الكون وأساس نظامهم السياسي ومستهلكون فيه" [12] فلو كان للرجل من سلطة لَمنع هذه الزوجة وهذه البنت، من الانخراط في هذا الحفل، وما وجدنا له أثرا. وربما يعود سبب تراجع هذا الحفل في السنوات الأخيرة رغم توالي سنوات الجفاف (زمن الطقس( إلى هذه السلطة المحدثة في بلاد " تامازغا" ( البلاد المغاربية ) رغم إمكان وجود مناطق مازالت تحتفظ بشعائرها القديمة كما عند القبايل في الجزائر ، "وأيت رك " Ayt Reg/twareg، في مالي والنيجر المطلق عليهم التوارق أو الطوارق ، وكما هو الشأن لبعض القبائل في ليبيا وذلك سنفصل فيه، في مقام أخر.
تلاغنجا الأمازيغية والمتضرعات الإغريقية:
تجتمع النساء الأمازيغيات حول رمز الاستسقاء " تلاغنجا " متضرعات لإله الغيث "، كما المتضرعات في مسرحية اسيخيلوس الإغريقية وهن حاملات لأغصان حديثة القطع ومكسوة بالصوف، هؤلاء الفتيات يعادلن النساء الحاملات لرمز الاستسقاء، لأنهن يشتركن في غاية واحدة رغم اختلاف مظاهرها ، إنهن جميعا مستغيثات، أما نساء تلاغنجا " فيستغثن من الجفاف، وأما المتضرعات فيستغن من الزواج المحرم، فلنتأمل في شكل استغاثتهن كما قال الملك (أحد الشخصيات) :" إننا نحيكن، من أية مملكة جئتن ؟ فملابسكن غريبة علينا إنها ثياب بربرية، ناعمة ورفيعة النسيج، ليست كالتي تلبسها المرأة في أرجوس أو في هيلاس، وكيف تجاسرتن على المجيء هكذا إلى شواطئنا غير خائفات، بغير استدعاء ولا ضمان وبدون صديق ولا مرشد ؟ إن هذا مدعاة للعجب حقا إن الأغصان التي هي إشارة المتضرع موضوعة إلى جوانبكن أمام هذه الآلهة ذات الأعياد"[13]
ما يهمنا من هذا القول أمران وهما كون هؤلاء المتضرعات غريبات عن بلاد الإغريق وكونهن حاملات لرمز التضرع وهو اللغة أو الشفرة التي تؤمنهن من خطر قد يواجههن من قبل الإغريقيين من جهة ، وتومئ بضعفهن وطلب الاستغاثة من جهة ثانية وهو نص ما يؤكده كلام الملك ذاته: " يمكننا تفسير هذه العلامة وحدها ، أما ما بقي فالتخمين يولد تخمينا آخر ، وهكذا إلى ما لا نهاية إن لم يكن هناك صوت يجيبنا بالحقيقة المؤكدة " [14]
لقد تبيّنا إذن علاقة شكلية بين المتضرعات في النص الإغريقي وفي الطقس الأمازيغي، رغم اختلاف السياقين ، ويبقى أن نعمق البحث والتأويل في جذور " التضرع " بينهما لنتبين علاقة جوانية بينهما فكما نعلم أن الاستسقاء يفضي إلى أن المجتمع مجتمع زراعي، بحيث يحتل الماء المكانة المهمة لتوفير الطاقة والحياة والخصب، وهذا ما يدفع النساء لمواجهة الجفاف بحفلهن " تلاغنجا " وعندما يرين المطر مضرا بالمحاصيل فإنهن يستعملن طقوسا عكسية لتجفيف الأرض وانقطاع أسباب السماء ، كما أشرنا في طقس " الجرن " أما ما يوحي في نص المتضرعات الإغريقية إلى الحياة الزراعية التي يفترض أنها صلب طقس التضرع عندهم وجود مجموعة من القرائن من بينها :
"تحدثي إلي بكل ثقة ، أنا بيلاسجوس ، ابن بلايخثون المولود من الأرض وحاكم هذه البقاع و العشيرة التي تزرع هذه الأرض تسمى بعدل عشيرة البلاسجيين ، نسبة لي ، أنا ملكهم كما أنني أحكم جميع المملكة الممتدة غربا والتي يجري خلالها نهر هالياكمون " [15]
في هذا القول نقف عند الحكم العشائري/الملكي الذي يعتمد الزراعة، مما يعطي للأنهار مكانة هامة ويفتخر بها، وذلك واضح لا يحتاج التفسير ، ويمكن التأكيد على هذا النظام الزراعي النيوليثي كما سبق أن أشرنا إليه في طقس تلاغنجا . وتلك مرحلة من التاريخ القديم بعد المرحلة الباليولتيكية المعتمدة على الصيد ، وهي الفترة التي " اكتمل فيها تطور البشر البيولوجي، هي من أطول الفترات في تاريخهم، وأكثرها غنى في تشكلهم وقد كانت أيضا، ومن عدة جهات زمن رعب ويأس لم يطور أناس تلك الفترة فكرة الزراعة ولم يقدروا على العناية بطعامهم، بل اعتمدوا بالكامل على صيد الطعام وتجميعه، كما كانت أهمية الميثولوجيا في تقرير نجاتهم واستمراريتهم بنفس أهمية سلاحهم ومهارتهم التي طوروها لقتل فريستهم وتحقيق درجة تحكم معينة ببيئتهم "[16]
لعل" للانتقال من حياة الصيد إلى حياة الزراعة أهمية كبيرة في الانتقال من حياة التنقل بحثا عن الصيد بأنواعه، من حيوان وماء، إلى الحياة الزراعية المعروفة بالاستقرار وطلب الماء من القوى الخفية بدلا من البحث عنه، كما في حياة الصيد، والاستنجاد بالقوى الخفية حاضر في الحياة الباليالتيكيةكما في الحياة النيوليثية مما أنتج الأساطير التي يرتكز عليها الإنسان لجلب قوته، وما يدل على الحس الأسطوري لهذا التحول من حياة الصيد إلى الحياة الزراعية ما جاء في المتضرعات في تعريف أحد الآلهة:" إنه أبولو أستاذ العلاجات والتنبؤات، الذي عبر الماء من ناوياكتوس Naupactus ، وطهر هذه الأرض من الوحوش التي تفترس البشر، تلك المخلوقات التي، لما كانت الأرض قد تدنست بجرائم القتل القديمة، قد قامت بتربيتها كما تفعل زوجة الأب القاسية – وتتألف من أسراب الأفاعي المتوحشة التي تقاسم الإنسان ميراثه" [17]
تشترك الحياة القديمة المعتمدة على الصيد، والحياة الجديدة ( الزراعية ) في أصل أسطوري وهو " الصعود الروحي " الذي يتذرع به الصيادون في المرحلة الباليالتكية بحيث "كان رجل الشامان يجيد ممارسة الإغشاءات والنشوات الروحية، التي كانت رؤاها وأحلامها تلخص تقاليد الصيد وتعطيها معنى روحيا"[18]
هذا الصعود والانتشاء نجدهما في طقس تلاغنجا في محاولة النساء الارتقاء في مدارج السماء لجلب الغيث ( المطر)، من الإله واستعمال " المغرفة " معادلا ماديا لسلم غير مادي يربط بين المساء والأرض، وأما الأغصان التي حملتها المتضرعات في مسرحية اسخيليوس فمعادل آخر يربط بين مقامين أحدهما يتميز بالسمو (مقام الملك)، وهو معادل السماء وثانيهما يتميز بالوضاعة وهن البنات المتضرعات " البربريات " كما وصفهن الملك في المسرحية، وهن معادل للأرض، و الأغصان المكسوة بالصوف معادل لذلك السلم الذي تحدثنا عنه، ومن هنا يكتسب الطقس أهمية جليلة في الربط بين الحياة والأسطورة، " فالأسطورة هي التي تعطي للحياة معنى وشكلا إلا أنه ومع تقدم الحداثة، أحدث اللوغوس نتائج مذهلة ، أصبحت الأسطورة بسببها قليلة القيمة "[19]، وذلك نص ما يشير إليه قول نادية البنهاوي إذ قالت :
" فالأسطورة ما هي إلا رؤية متوارثة لوضع الإنسان العبثي في الكون منذ نشأته وعذابه غير المفهوم وغير المعقول، وصراعه وتحديده لقدره ذاك مع نفسه ومع الأقوياء الذين يمثلون الأغلبية أحيانا أخرى يمثلون الآلهة المعادلين للحكام بكل الجبروت والتسلط"[20].
لكننا نرى أن فهم نادية قد انصرف عن الأسطورة ليدل على توظيفها ولو تأملنا في الأساطير لوجدنا أنها تحمل تمفصلا دلاليا بين ظاهر الكلام وفحواه، فلا خجل من الإقرار أن السريع يشار إليه بالأعرج، والبصير بالأعمى، والذكي بالمجنون، فكذلك يكون العبث هو معادل النظام، ولذلك فإن المغرفة البائرة هي العروسة المتزوجة بالإله: إله الغيث طبعا.
خاتمــة:
تحمل " تلاغنجا " مجموعة من الشفرات اللغوية والدلالية ذات الأهمية الكبرى في فهم التوظيف الأسطوري للإنسان الأمازيغي القديم لرموز مستغلقة على الفهم رغبة في فهم الحياة من حوله وتعبيرا عن إمكانية التحكم في الطبيعة بخلق أجهزة التحكم في أسباب العيش باستنزال الغيث وقت الجفاف، وصده في حالة الفيض، مما يدل على قوة الترابط بين الإنسان والغيب وإيمانه القوي بوجود قوى تتحكم في الوجود، لكنها تتفاعل مع الإنسان بتقديم القرابين بمختلف أشكالها ونرى هذا الطقس من المفاتيح الأساسية لإنتاج معرفة علمية في مجالات الأنتربولوجيا وعلم الأديان والمعتقدات كما في علم الجنسانية وغيرها من الدراسات النفسية والاجتماعية، وذلك ما نهدف إليه من خلال مجموعة من الكتابات ذا المواضيع المختلفة والمتكاملة في آخر المطاف.
بيبلوغرافيا:
1) تاريخ الأسطورة . كارين أرمسترونغ . ترجمة وجيه قانسو. ناشرون لبنان ط .1 .2008.
2) تاريخ شمال إفريقيا القديم. ألبير عياش. ترجمة عبد العزيز بلـفايدة. منشورات أمل ط.1. 2007/2008 .
3) الفرجة والتنوع الثقافي مقاربات متعددة الاختصاصات كتاب جماعي منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة. (بدون سنة).
4) موت العقل الأمازيغي . عبد الحميد العاوني . منشورات عربية عدد15. (بدون سنة).
5) دراسات في الفكر الميثي الأمازيغي محمد أوسوس. المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. الرباط. المغرب. 2008
6) مسرحيات إسخيليوس . ترجمة أمين سلامة. مكتبة مدبولي القاهرة. الطبعة1. 1989.
7) بذور العبث في تراجيديات الإغريقية وأثرها على مسرح العبث المعاصر في الغرب وفي مصر (دراسة مقارنة ) نادية البنهاوي . الهيئة المصرية للكتاب . 1998.
8) وشم الذاكرة: معالم أمازيغية في الثقافة الوطنية. رشيد الحسين. (بدون سنة).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] تاريخ الأسطورة . كارين أرمسترونغ . ترجمة وجيه قانسو ناشرون لبنان ط 1 .2008. ص 41
[2] تاريخ شمال إفريقيا القديم. ألبير عياش. ترجمة عبد العزيزي بالفايدة منشورات أمل ط 1 .2008 . ص16
[3] تاريخ الأسطورة . كارين أرمسترونغ . ترجمة وجيه قانسو. ناشرون لبنان ط 1 .2008. ص 25
[4] تاريخ الأسطورة . كارين أرمسترونغ . ترجمة وجيه قانسو. ناشرون لبنان ط 1 .2008 ص 26-27
[5] الفرجة والتنوع الثقافي: مقاربات متعددة الاختصاصات. كتاب جماعي. منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة. ( فؤاد أزروال مقالة فرجات العرس بمنطقة الريف ص 99.
[6] الفرجة والتنوع الثقافي: مقاربات متعددة الاختصاصات. كتاب جماعي. منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة. ( فؤاد أزروال مقالة فرجات العرس بمنطقة الريف ص 99.
[7] تاريخ الأسطورة ص 42 - 43
[8] موت العقل الأمازيغي . عبد الحميد العاوني ص 79
[9] دراسات في الفكر الميثي الأمازيغي محمد أوسوس ص 19.
[10] دراسات في الفكر الميثي الأمازيغي محمد أوسوس ص20.
[11] تاريخ الأسطورة ص 110.
[12] تاريخ الأسطورة ص 170.
[13] مسرحيات اسخيليوس . أمين سلامة مدبولي القاهرة ص 264
[14] نفسه ص 264.
[15] مسرحيات اسخيليوس . أمين سلامة مدبولي القاهرة ص 264/265
[16] تاريخ الأسطورة ص 17
[17] مسرحيات اسخيليوس . ترجمة أمين سلامة مدبولي القاهرة ص 265
[18] تاريخ الأسطورة ص 26
[19] تاريخ الأسطورة ص 110
[20] بدور العبث في تراجيديات الإغريقية وأثرها على مسرح العبث المعاصر في الغرب وفي مصر (دراسة مقارنة ) نادية البنهاوي . الهيئة المصرية للكتاب . 1998 ص 11.
افولكي الخيراد ادا قاسم
ردحذفتانميرت نك دادا أيور اليوسفي ...
حذف